--------------------------------------------------------------------------------
لا أتحدث عن المكاسب أو الخسائر التي تحدث للمستثمر.. فالمستثمر يهرب من أي نشاط اقتصادي بمجرد أن يشعر بالخسارة ويتيقن أنها ليست خسائر مؤقتة، مثلما أن الأرباح تبقيه في ذلك النشاط وتجذب غيره من المستثمرين إلى أن يصل السوق إلى حالة متوازنة يتعادل عندها العرض مع الطلب..
إنني أتحدث عن الأرباح والخسائر من المنظور الوطني.. فالخسائر ليست بالضرورة هي ما يتكبده المستثمر وحده وإنما ما يتكبده المجتمع عموماً.. بل إن المستثمر قد يحقق أرباحاً طائلة من نشاط اقتصادي يلوث البيئة ويدمر صحة البشر ويزيد الأعباء التي تتحملها ميزانية الدولة ممثلة في الإنفاق الصحي وتنظيف البيئة وغير ذلك من الأعباء..
نشرت جريدة "الرياض" منذ أيام تصريحاً لمعالي وزير المياه والكهرباء المهندس عبدالله الحصين جاء فيه أن الزراعة تستنزف 89بالمائة من استهلاك المياه بالمملكة!! وفصَّل الوزير "حالتنا المائية" على النحو الآتي:
تستهلك المملكة 12مليار متر مكعب سنوياً من المياه الجوفية غير المتجددة. وتمثل هذه المصادر غير المتجددة 57بالمائة من مجمل الاستهلاك.
وتستهلك المملكة سنوياً 8مليارات متر مكعب من المياه السطحية والجوفية المتجددة. ويمثل ذلك المصدر 38بالمائة من جملة الاستهلاك.
وتستهلك البلاد سنوياً 840مليون متر مكعب من مياه البحر المحلاة. ويمثل هذا المصدر ما نسبته 4بالمائة من جملة الاستهلاك العام.
ويتم استهلاك 210ملايين متر مكعب سنوياً من الماء الفائض المسترد الذي يمثل ما نسبته واحد بالمائة من الاستهلاك العام.
وتستهلك الزراعة وحدها 18.7مليار متر مكعب سنوياً من هذه المياه التي تستهلكها المملكة.. أي أنها تستهلك 89بالمائة من المياه في حين أن بقية أنواع الاستهلاك لا تمثل سوى 11بالمائة من الكمية المستهلكة بما في ذلك مياه الشرب والاستخدامات السكنية والصناعية والتجارية وغيرها.. وهذا يعني أن جميع أنواع الاستهلاك لا تتجاوز 2.3مليار متر مكعب مقابل ذلك الاستنزاف الزراعي الرهيب الذي يبلغ - كما أشرنا أعلاه - 18.7مليار مترمكعب!!!
هذا الاستهلاك غير المنطقي لقطاع الزراعة في بلدنا الصحراوي القاحل سيكون على حساب الأجيال القادمة التي سوف تعتبر الجيل الحالي أنانياً ومقصراً وقصير النظرة.
لقد حان الوقت كي نحد من النشاط الزراعي الذي يكلف بلادنا أغلى ثروة وهي الماء.. يجب أن نزن الأمور بميزان المنطق والحكمة والعقل بعيداً عن الحماس العاطفي حتى لو تطلب الأمر أن تتدخل الدولة وتحد من هذا الهدر بقوة القانون وتمنع بعض أنواع النشاط الزراعي مقابل تعويض جزء من خسائر بعض فئات المستثمرين.. علماً بأن هناك حلاً أسهل وهو إتاحة قوى السوق بأن تعمل وفق تقدير للتكلفة الحقيقية للماء واستيراد احتياجاتنا الزراعية من الخارج.
لقد قلت مثل هذا الكلام منذ أكثر من خمس عشرة سنة في ورقة قدمتها لإحدى ندوات الجنادرية.. وكان الحديث عن الزراعة بمثل تلك الصراحة بمثابة "تابو" لا يمكن الاقتراب منه في تلك الأيام.. وها نحن اليوم ندرك فداحة الخطأ الذي وقعنا فيه.. فهل ننقذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان أم نكرر الأخطاء التي وقعنا فيها عندما كانت أشياء كثيرة لا يجوز الحديث عنها ودفعنا الثمن لاحقاً كالإرهاب والمخدرات والتطرف وغيرها من الأمور التي لم يكن الحديث عنها ممكناً بسبب حساسيتنا المفرطة وكأننا من جنس يفوق البشر!؟